علاقة الرواية بالسينما





تقديم :
قضية تحديد العلاقة بين الرواية و السينما ليس بالأمر الهين لكن حاولت من خلال عرضي المتواضع هدا أن أفكك لأجزاء الفيلم و أدقق في بنيته و دلك على مستوى تحليلي بينه و بين الرواية .
لكل فن كتابته الشخصية و خصائصه البنيوية التي تجعله مستقلا بذاته أمام الفنون الأخرى و تميزه عن غيره من الأجناس ... و هدا ينطبق أيضا على الرواية ككتابة على الورق تجسد فيها أحداته و شخصياتها و حواره و ما أرادته من أفكار ... و هي أس الإبداعي السينمائي باعتباره كتابة على الصورة بحيث تنقل الرواية من وقعها المكتوب المرتبط بالطبقة المثقفة إلى طبيعة تصورية تلتقي و أعين المشاهد المثقف بشكل و العادي بشكل أخر ...
إدا من هنا نتساءل :
ـين تكمن العلاقة بين الرواية و السينما ؟ و أين تتجلى هده العلاقة ؟ و كيف يمنكن تحديدها ؟ وما الخروقات السينمائية التي أحدثت في حق الرواية ؟ و ألم تخرق السينما البعد النفسي للرواية و ما الغاية من هده الخروقات ؟

I. البنية المكانية :
للفضاء أهمية كبيرة في أعمال سواء كانت روائية أو سينمائية حيث أن الفضاء هو داك الإطار الإبداعي التصويري للحياة الشخصية للفرد و مواجهته للعالم الخارجي ... فهو ليس فقط مكونا ايطاريا جماليا أو تزينينا يؤثث به عالم الرواية أو المشهد السينمائي بل هو جوهر أساسي ينطلق بما لا تنطق به الشخصيات و ما لا يعبر عنه الحوار ... بل هو أساس الحركة التفاعلية من ناحية الشعور و المعانات مثلا الشعور بالوحدة أو العزلة ... و العلاقة بين المشاهد الروائية و السينمائية هي ما سنلاحظه من خلال ما يلي :

1. فضاء السجن :
و هو المشهد الأول الذي تبتدئ به الرواية أحداثها و يفتح به نجيب محفوظ روايته حين يغادره سعيد مهران بعد أن قضى فيه 4 سنوات " ... هاهي الدنيا تعود و ها هو باب السجن الأصم يتعد منطويا على الأسرار اليائسة "(1) مشهد يعبر عن الوحدة و العزلة المطلقة عن العالم عبر حصار يفقده حريته ...
أما في السينما فقد تجاوز هدا الحدث المفرد إلى ما قبل حدث الخروج من السجن بزمن طويل ربما بدافع أن يضع القارئ أمام حقيقة الأمر و أسباب هدا السجن حتى لا يستغرب بظن أو يتوه بأخر أو حتى لا يخرج عن واقع المشاهد بخياله إلى تأويل لما قبل الحدث فكان هنا أن تمددت المدة بمشاهد تعبيرية حتى رأيت أنه قد أعفى المشاهد من تعب السؤال أو تخمين. فكان أن أبان مشهد السرقة فلم يكتفي بالقبض عليه بل تابعه إلى ما هو معتاد من مشاهد أخرى ( محاكمة و سجن )(2) .
ربما المخرج كان سعيه أن يستغل هده المرحلة بفرصة للبطل في استرجاع الماضي وما جاوره من أحداث حتى يتمكن في ما بعد من السير في مسار واحد دون إعاقة المشاهد و إرجاعه إلى الوراء ...

2. فضاء الشقة التي تقطن فيها نور :
ففي الرواية قد صاغ نجيب محفوظ الفضاء بشكل جعله رسما تعبيريا عن العزلة و المعانات و الخوف الذي عانه البطل. خوفه من إشعال حتى شمعة خوفا من إثارة انتباه الجيران له " يا له من ظلام ... انقلب خفاشا فهو أصلح لك"(3).
فكانت السينما أن شخصت برسم أخر للفضاء فجسدت فيه العزلة و المعانات ... لكن كان أن خرقت مبدأ الخوف في ذات البطل بحيث ظل المشهد منار المكان ... ربما أراد بدالك أن يجعل سعيد مهران يحس بالأمان في بيت نور كما تجسدت العلاقة في لحظة تولد مشاعر صادقة من المحبة التي تطرد الوحدة وتميت تلك المعانات .

3. فضاء حي الدراسة (4) :
تميز هدا الفضاء في الرواية بالسكينة و الاطمئنان و العزلة عن العالم الصاخب كما أنه مأوى من لا مأوى له لا ينغلق أبدا في وجه الخلق و كان سعيد مهران يلجأ إليه في لحظات الشدة رغم أنه لا يشعره بالراحة و دلك لأن مذهبه غير مذهب الشيخ.
أما على مستوى الشريط السينمائي فالمخرج لم يمنح لهدا الفضاء وقتا كافيا قد يزرع الحنين و الشوق في نفس المشاهد حتى يثير الفضول في نفسه و يقوي نفسه و يحرك مشاعره اتجاه جو كجو داك الفضاء الممثل للسكينة و الراحة و التعبد ...

4. فضاءات أخرى :
فضاءات لها أهميتها في دينامية الحدث الروائي كمقهى طرزان فضاء يوفر لسعيد معلومات بصدد أعدائه و منه حصل على وسيلته في الانتقام ( المسدس ) و فضاء فيلا رؤوف علوان ... و هدا ما جسدته السينما رغم بعض الإضافات لكن لا ربما كانت من دافع ضرورة سينمائية .
من الملاحظ أنه رغم مجموعة الخروقات هده الا أن السينما تبقى مرتبطة بالرواية و حاملة لمعناها و محافظة على ما ابتغته من إشارات ... رغم كل الإضافات .

II. البنية الزمنية :
لم تلقى أي تغير لأنها أساس إشكالي يحمل على مساره بنية الإنسان الذي يعيش إيقاع حياته المتشكل على مبيان به حركة تدبدبات تمثل الأحداث و المعانات ... " مشكلتا إطارا تعبيريا إشكاليا يطرح في عمقه ما شاء من التساؤلات و يقذف بالإجابات في فضاء ملتبس "(5) ... فكل بنية زمنية تؤطر حركة قد تكون مكشوفة أو غير مكشوفة مكونة بدالك إجابات تكميلية أو تقدم مفهوما أوليا أو وصفا باطنيا .

III. البعد الفسي :
جانب تكتنز به الرواية بشكل عام و دلك مما تحتويه من مشاعر و أحاسيس و عواطف متوترة تكشف عن أزمة الإنسان الذي تتحدث عنه و قدره في عالم غريب لا يأنس له. وهدا ما نسعى من خلاله لإدراك هل السينما قد حافظت على البعد النفسي للرواية أم صاغته هو الأخر على إيقاع تصويري ما وهدا ما سنتطرق له عبر عدة علاقات منها :

1) علاقة كراهية :
و هي تجمع بين سعيد مهران و نبوية و عليش و رؤوف علوان و هي علاقة جسدتها الرواية و شخصتها السينما محافظة على رابطة الكره في ما بينهم و سعي سعيد مهران للانتقام منهم حتى يسترد معنى الحياة الذي افتقده .

2) علاقة حب و علاقة تواصلية روحية :
و هي ما جمعت بين البطل سعيد مهران و ابنته من جهة و المرأة نور التي آوته و احتضنته في لحظات الشدة من جهة أخرى و العلاقة التواصلية و الروحية بينه و بين الشيخ الجنيدي.
لقد احتفظت السينما دون تغير أو تدخل في جوانب هده العلاقات كونها أساس الرواية و منها تتحدد المواقف التشخيصية للسينما ... فنجيب محفوظ سعى من خلال التركيز على نفسية الفرد البارز و هو البطل حتى يلفت الانتباه إلى تداعياتها على نفسية الفرد الأخر خاصة الفقراء و الضعفاء ... فجسددالك في الإحساس بالخيبة و نزوع البطل و التمرد على مجتمع يسير عكس عقارب الساعة . و هدا ما جعلنا نقرأ فشل سعيد مهران في الانتقام من أعدائه و لكن نجح في جعل أزمته في الواجهة ليصبح بطلا تعاطف معه معظم الناس مثال : " اجتماع الصحفيين و رئيس الجريدة قوله أن علوان قد أبان عن نشاط غير عادي في هده القضية لكن حكمه ( أي رؤوف علوان ) اقتصر على الإعدام في حق سعيد مهران ... ليقول رؤوف علوان : إنه مجرم
في نظري و في نظري كل الناس .ليتدخل رئيس الجريدة قائلا : لا بالعكس انه بطل في نظرهم ... "(6) فكانت السينما كما رأينا في هدا المقطع الحواري بين رئيس الجريدة و رؤوف علوان أنها حرصت على شخصية البطل و ما خالج العامة من الناس اتجاهه فكان أو مكنته من مصطلح الشهرة و البطولة على لسان رئيس الجريدة .

IV. الأحداث الروائية و السينمائية :
فمن يقرأ الرواية و يشاهد الفيلم يدرك من دون شك أن السينما قد شكلت صورتها على ما ابتغته و ما أدركته من ضرورة لشد انتباه المشاهد و تسهيل منحى التفاهم و التفاعل المتدرج على مستواه الإدراكي ... فالملاحظ في الفيلم السينمائي ( اللص و الكلاب ) هو تعدد المشاهد بكثرة مقارنة مع الرواية و دلك لا ربما سعيا منه إلى تبسيط و صياغة جديدة لمحور القصة الروائية مع الاحتفاظ بمفهوماتها و شخصياتها.. لكن أحدثت تغيرات بمشاهدها و هدا لا ربما أيضا بغية تمديد مدة الشريط السينمائي ...

1 ) خروقات السينما في المشاهد الروائية :
هدا ظاهر من أول الفيلم فبدايته انطلقت عكس ما عملت عليه الرواية حيث انطلقت السينما إلى ما وراء الحدث ( خروج سعيد من السجن )(7) ففي هدا المشهد استعجل المخرج في تصوير و إظهار وجه الخيانة(8) و التدبير الشراني الذي محوره الأساس أن يوقع بسعيد مهران في فخهم و يقبض عليه متلبسا ... مما عجل في تقديم فكرة الخيانة و تثبيتها في دهن المشاهد مما لا يترك فرصة الجدال الفكري له لكن كان قالبه التصوير عكس ما قد ينتظره أي مشاهد معتاد على السلسلة التقليدية .
بالإضافة إلى خرق في مشاهد أخرى كمشهد الهروب و فراره من الشرطة و مشهد السجن الذي لم يكن له في الأصل وجود مما يبين أنه قد أبتدع من فكرة الرواية و زد على دالك مجموعة من الخروقات عجزت حقيقة على عدها و تجميعها في عرض مركز.

2 ) الغاية من الخروقات :
و في الحقيقة لا يكن لنا الجزم في حقيقة الغاية من كل هده الخروقات السينمائية في حق الرواية لكن لنا إمكانية أن نتأمل في الغاية منها ... ومن خلال مجموعة من المشاهدات لأفلام كثيرة و خاصة فيلم اللص و الكلاب و مقارنته مع الرواية وجدت على أنه ربما يكون المبتغى من هدا كله هو تحقيق كل تلك الصفحات السردية للرواية في مشاهد تجسيدية لا تخرق السلسلة الروائية و لكن تعمل عمل تبسيط و تحقيق صورة ترسم من أصل تلك الكلمات الروائية سواء السردية أو الوصفية أو الحوارية ... و في غالب الأحيان أجد أن تلك الإضافات يكون منها مبتغي تمديد مدية العرض لأن الالتزام بالقوانين الروائية سيكون من شأنها إيجاز مدة العرض و تعقيد بعض الأفكار أمام المشاهد البسيط ...

3 ) النهاية الروائية و النهاية السينمائية :
كل نهاية تعد باعتبارها تعبير عن موقف لكاتب الرواية فينحو عليها فكرة و غير مبسطة أو مكتوبة بشكل مباشر و إنما تكون موقفا نابعا من مجموعة مواقف و أراء و تحاليل تشخيصية للظاهرة حتى نخلص يخلص الكاتب بدالك إلى النهاية . و نهاية رواية اللص و الكلاب لنجيب محفوظ أقامت حفلا يمنح البطل أمل الحياة و دالك من خلال القبض عليه فقط ... فهناك من سيقول أن الموت أفضل من السجن نعم و لن فنجيب محفوظ في منحه الحياة للبطل سعيد مهران لا ربما قد أتاح له فرصة الفرار مرة أخرى من السجن حتى يحقق ما لم يحققه ... إلى أخره من التخمينات لكن الأصح هو أنه قد جعل لروايته مستقبل في دهن القارئ ...
لكن الكتابة السينمائية قد سارت عكس ما وضعه الروائي و دلك من خلا أن وضعت السينما حدا لحياة سعيد مهران و قطع الجسر الدي أنشأه نجيب محفوظ " قتل سعيد مهران في مداهمة للشرطة بعين المكان "(9) لمادا سار المخرج في هدا النحو ؟ لا ربما رأى فيه مجرما حقيقيا رغم كل الإكراهات و مدنبا رغم كل المعانات و لا ربما أن المخرج كمال الشيخ رأى حل القضية في موته و أن الحياة ستكون عدابا له. و لا ربما و هو الرأي الراجح بالنسبة لي أن المخرج قد أراد أن يبين أن وجه الخيانة و الفساد و الانحطاط هو السائد و أن من تجرأ على عصيانه ومعاندته و الوقوف في أمام مصالحه سيكون له ما كان لسعيد مهران .

الخلاصة
للكتابة الروائية خصائصها و للكتابة السينمائية ضرورتها مما سمح لها أن تعدل في المقاطع و تشكله على ما ابتغاه المخرج لمشاهديه لكن تظل مرتبطة بشخصيات الرواية و أحداثها رغم أنها في بعض الأحيان تغير من النهاية التي قد صادق عليها المخرج .



الهوامش

________________________________________
(1) نجيب محفوظ – اللص و الكلاب ( ص 5 ) – دار الشرق .
(2) فيلم اللص و الكلاب – إخراج كمال الشيخ.
(3) نجيب محفوظ – اللص و الكلاب ( ص 73 ) الفصل السادس.
(4) حيث يقيم الشيخ علي الجنيدي المتصوف و صديق والده
(5) فيصل دراج : نظرية الرواية و الرواية العربية . المركز الثقافي العربي – بيروت – الدار البيضاء 1999 ص 18 – عن مطبوع مجهول المصدر بتصرف .
(6) فيلم اللص و الكلاب ( مشهد الإجماع ) إخراج كمال الشيخ .
(7) عد إلى ما سابق في البينة ( فضاء السجن )
(8) فيلم اللص و الكلاب - المشهد الثاني قبل البداية في لحظة تطمئن على تخطيط عليش تقول نبوية له : خلي بالك من نفسك .
(9) فيلم اللص و الكلاب – المشهد الأخير من الفيلم .

الــــمـــــراجـــــع و الــــــــــــــمــــــصادر



 رواية اللص و الكلاب – نجيب محفوظ – دار المشرق .
 فيلم اللص و الكلاب – إخراج كمال الشيخ .
 مطبوع مجهول العنوان و المؤلف ( أخدت منه قول فيصل دراج : نظرية الرواية و الرواية العربية . المركز الثقافي العربي – بيروت – الدار البيضاء 1999 ص 18 .