توطئة:
إن مقاربة انخراط الكائن البشري في عملية التواصل، سواء مع الآخر أو مع موضوعات العالم، وما تتطلبه هذه العملية التواصلية من انصهار وتفاعل للذات مع تجارب اليومي الممتدة في الزمان والمكان، قد حتم على الدرس السيميائي في خضم التطورات المعرفية الطارئة والمتلاحقة، توسيع جدول أعماله، ليطال لغات أخرى ينتظمها جدول أعمال خفي، يبطن عملية التواصل التي ليست دائما لفظية وصريحة، فقد تكون حركية وقد تكون إيمائية، وقد تكون وجدانية داخلية، تتمظهر أحيانا في بعض المشاعر أو السلوكات أو من خلال لعبة الأشكال والألوان والأنغام التي "تتكلم معنا، وتولد فينا إحساسات أو ذكريات")[i]( ما أن نعقد "بينها وبين السياق صلة فإنها ستبعث في الذهن أشياء أخرى، فتغدو علامات")[ii]( من بين أخرى، راسمة تمايز الإنسان وهويته وسط مسكنه البيولوجي والطبيعي، بخطوط وأصوات وأشكال وألوان ثقافية متعددة، مثل "الكلمات والسلوكات والوضعيات والإشارات ورنة الصوت وتعبيرات الوجه، و طريقة استعمال الزمان، والفضاء والمادة وطريقة العمل، واللعب، وممارسه الحب والدفاع عن الذات. كل هذه العناصر وغيرها، وليست هي وحدها تشكل نظما للتواصل التام حيث لا يمكن فهم الدلالة دون معرفة سلوك ما داخل سياقه التاريخي، و الاجتماعي الثقافي")[iii]( لقد شكلت مظاهر التواصل غير اللفظي إلى جانب اللغة، قناة تتداول رسائلها من مجتمع للآخر، الشيء الذي جعل مجموعة من الباحثين من تخصصات مختلفة، في أمريكا يحتفون بهذا النمط الأصيل من التواصل، وذلك منذ أواخر الخمسينات إلى حدود الآن، حيث تبلور عن هذا الاهتمام فرع معرفي قائم بذاته يدعى إثنوغرافيا التواصل، انطلق بدافع الرغبة في اكتشاف الطريقة التي تبني بها الشعوب تجاربها اليومية، عبر مقاربة تعبيرات كلامها في البداية ووصولا إلى تمديد مجالات البحث، بصهر مفاهيم علم النفس وعلم الاجتماع و اللسانيات و الأنطروبولوجيا في بوثقة واحدة، لتناول العلاقات التفاعلية في المجتمع المعاصر، اعتمادا على أطروحة مركزية بسيطة، تعتبر الحياة الاجتماعية مؤسسة على مجموعة من الشفرات و السنن المعقدة، تقف وراء الفعل وتوجهه، و تتوخى الإثنوغرافيا الكشف عن هذه الشفرات و السنن في تجسدها المباشر عبر التواصل اليومي بين "الكائن البشري كشخص يحتاج في نفس الوقت إلى العثور على هويته والمحافظة على اندماجه، الشيء الذي لا يتأتى تحقيقه إلا داخل التبادلات مع الآخرين، مع أولئك الذين وقع عليهم اختياره ")[iv]). إن التطور الذي هم مجالات اشتغال، إثنوغرافيا التواصل في أمريكا، فتح أفقا جديدا أمام مظاهر التواصل، تبوأت بفضله لغات أخرى مكانة متميزة، في وقت لم تكن تعطى الأهمية فيه للتواصل خارج منطوق اللغة، كالأقنعة والرقص والألوان والروائح, كلغات تكلمها الإنسان إلى جانب لغات أخرى غير لفظية. وهكذا، سوف تنطوي دراستنا في هذا المقال على نقطتين: ففي النقطة الأولى سأقف عند مفهوم التواصل غير اللفظي، أما النقطة الثانية فسأتناول من خلالها أهم وظائف هذه الصيغة الصامتة من التواصل. أولا - محاولة في تحديد المفهوم: شكل مفهوم التواصل غير اللفظي إحدى أهم أسئلة العلوم الإنسانية العميقة والغامضة بالنظر إلى كونه يخرج عن نطاق التواصل اللفظي المألوف عند البشر، الشيء الذي جعله عرضة لاصطلاحات متعددة، فتارة ينعت باللغة الصامتة وطورا بلغة الجسد، وفي بعض الأحيان بفعل الإشارة أو الحركة الخ . إن مصطلح " غير اللفظي " يكتنفه الغموض، حيث وصفه أحد الباحثين بكونه من " بين المصطلحات الأضعف تحديدا من بين تلك المتعلقة بالسيميائيات")[v](، مقارنة مع اللغة اللفظية التي تتأطر تداوليتها ضمن فعالية الشفاهة أو الكتابة على مستوى الإنتاج والصور السمعية أو القراءة على مستوى التلقي، وبناء على ذلك، هل يمكن الحديث عن الخصائص أو السمات المميزة العامة لهذا النمط من التواصل غير اللفظي ؟ لقد قدمت بشأن سؤلنا إجابات متعددة، بتعدد حقول الاشتغال من سيميائية وأنطروبولوجية وما إلى ذلك، ووسط ما راكمته هذه الحقول من تصورات في مبحث التواصل غير اللفظي، سأستحضر ما أراه على صلة بالتعبيرات الجسدية، ومختلف الأنساق الرمزية التي تشيد دينامكية طقوس اليومي العملية والأسطورية التي تخرق متواصل حياة الإنسان في الهنا والآن. وهكذا نجد الباحث الأنطروبولوجي "جاك كوراز" )[vi]( ينطلق في تحديده للخصائص العامة للتواصلات غير اللفظية بإقصاء النسق اللساني البشري اللفظي، إذ يعني بالتواصلات غير اللفظية مجموع وسائل التواصل الموجودة بين أفراد متعايشين لا يستعملون لغة بشرية أو إحدى مشتقاتها غير الصوتية )كتابة، لغة الصم البكم الخ (، وعلى هذا الأساس يطبق هذا المفهوم، على الإشارات، وعلى الوضعيات، وعلى اتجاهات الجسد، وعلى خصوصيات بدنية، طبيعية أو اصطناعية، وحسب تنظيمات الأشياء، وعلى روابط ذات مسافة بين الأفراد، حيث بفضلها يتم بث خبر ما، بلغة أخرى لا تتوقف عن مواصلة وظيفتها التواصلية التي "تلعب دورا أساسيا في التبادلات فيما بين الأفراد interpersonnels ما دامت تنقل نسبة 65 إلى70 في المائة من الخبر، وعليه، فالمسألة تتعلق بأخبار من طبيعة مختلفة )...( فاللغة اللفظية تستعمل من أجل نقل أخبار ومعارف، في الوقت الذي نجد اللغة غير اللفظية تعبر بالخصوص عن العلائقي " )[vii]( . ويذهب " إدوارد هال " أبعد من ذلك حينما اعتبر السلوك الصامت هو الأصل في حياة الإنسان ما دام يشكل نسبة 90 في المائة في عالم التواصل )[viii](، المرتبط بمجالات عديدة تشمل عموما الأنطربولوجيا والأخلاق والعادات والطقوس، ومختلف الانفعالات المرتبطة بعالم الأهواء، وبناء على ذلك يجمع الباحثون في حقل التواصل على أن مظاهر التواصل غير اللفظي تشمل "مجموع ما ينتمي إلى التجربة التي تستوطن الذات )الإيماءات واللباس وطريقة الجلوس واستقبال الضيف...( وتستوطن محيط هذه الذات أيضا )ما يعود إلى طريقة التعاطي مع الفضاء والزمان وأشكال العمران(" )[ix](، ولعل هذه المظاهر الصامتة من التواصل، تصب في جوهر أعمال "بيردويستيل" المتعلقة ب "الكينيزية" أو علم الحركة، وكذلك في جوهر أعمال "إدوارد هال " الخاصة ب "البروكسيميك" أو الإبلاغ الحيزي )[x]( ثانيا- وظائف التواصل غير اللفظي يلعب التواصل غير اللفظي، أدوارا ووظائف أساسية في حياة الإنسان، لا تقل أهمية عن تلك المتعلقة باللغة اللفظية، حيث يشكل دعامة الإنسان المادية الملتصقة بجسده، ووسيلته الأصيلة في الاحتكاك المباشر والبدئي مع ذاته ومع غيره، وباقي مختلف موضوعات العالم، إنه اللغة الأولى التي- تكلمها البشر بعفوية وتلقائية - سرعان ما انتظمت في أنحاء ومعاجم ذات طبيعة إشارية وسحرية تعبدية، تومئ وبغزارة عن مدى "انفجار الكائن في اتجاه الأصل المفقود من زمان الصوت بلا كلام ")[xi](. ومن رحم هذه اللغة الحسية الحميمة، انبثقت اللغة المتمفصلة وشيدت قانون تشكلها، وقواعد لعبها، وأملت هبتها ورسمت علاماتها في أذهان الناس، منذ زمان موغل في القدم، لكن رغم ذلك لم تفلح هذه اللغة اللفظية، من فك ارتباط الإنسان بلغة جسده الأم ما دمنا نجد "المواليد الجدد يبتدئون بمزامنة حركات جسدهم مع الكلام، كيفما كانت اللغة المستعملة")[xii](، فأي لغة إذن هي لغة الجسد ؟ ومن أين تستمد مكامن قوتها وضعفها ؟ وهل من قراءة ممكنة في سجلاتها ؟ وما سر تداول هذه اللغة الصامتة في ظل وجود لغة متمفصلة شائعة وذائعة الصيت ؟ لعل هذه الأسئلة وغيرها، تضمر قصور وإخفاق كفاءة اللفظ الأفقية المحدودة، في مجاراة أبعاد وفعاليات رموز عميقة، تطفو على مسرح الوجود الإنساني شلالا، تفيض علاماته – غير اللفظية - بحياة أخرى دون ما تحفظ، إذ لطالما عجزت هذه اللغة في تكييف وتطويع منطوقها، لترجمة هذه الحالات والوضعيات التعبيرية من هذه التجربة الإنسانية التي " تشكل جزءا مكملا للشخصية وللمجتمع نفسه وتتجذر حتى في طريقة العيش سواء تعلق الأمر برجل أو امرأة. وبدون هذه النظم الدقيقة غير المدونة والتي تنظم التنوع العجيب لمصادفات المعيش اليومي، فإن الإنسان لن يغدو إلا مجرد آلة")[xiii](. على خلفيات هذا الحضور القوي إذن، للتواصل غير اللفظي في حياة الإنسان، اقترح " بيترسون " Patterson التمييز بين خمس وظائف )[xiv]( : نقل الأخبار تنظيم وضبط التفاعل التعبير عن الحميمية التعبير عن الرقابة الاجتماعية تيسير المصلحة المهنية وكل وظيفة من بين هذه الوظائف قابلة لتوظيف ، حسب وضعيات متنوعة، مختلف قنوات التواصل التي سأقف عند بعض وظائفها بتفصيل لاحقا. ويميز "بيردويستل " بين نمطين من التواصل لكل واحد منهما وظيفته الخاصة، فحين يكون التواصل واضحا وعقلانيا، فإن وظيفته تقف عند حدود الإخبار، وعندما يكون ضمنيا و لاشعوريا، آنذاك يعم الصمت وتتكفل لغة الجسد بأداء وظائف تواصلية، عبرها تتسرب لغة الأحاسيس والسلوكات التي تتمسرح خارج نطاق تغطية لغة الشعور والمنطق والعقل، وبناء على ذلك تنقلب "العلاقة حقيقة\كذب vérité/mensonge، حيث التعبير غير اللفظي هو الأكثر صدقا وأصالة من اللفظي")[xv](، وتتجلى هذه العلاقة بشكل قوي في لغة الرقص، حيث ينسج الراقص حوارا تعبيريا مع جسده، قد يفشي أسرار عمقه الإنساني بتلقائية قل نظيرها، تعود بنا "إلى جذور الحياة، التي ليست من الضروري نعمة أو جمالا، أو غير مكلفة، ولكن قبل ذلك صراخ، وتنفس، وانتعاظ (ذروة النشوة الجنسية( وتجذير")[xvi]( الشيء الذي يلغى معه قانون الرقابة الذي يعيد تركيب الأفكار والكلمات، وفق سيناريوهات سابقة التحديد. ونظرا للدور التواصلي الذي تضطلع به لغة الجسد، فقد خصص لها "بيردويستيل" دراسة مستقلة تعرف ب "الكينيزية" la kinésique موضوعها هو "دراسة المظاهر التواصلية للحركات الجسدية "المتعلمة" appris و"المبنينة" structurés")[xvii]( والتي تتوفر على نفس قواعد اللغة، الشيء الذي جعل "بيردويستيل" يستنبط من اللسانيات ثلاثة أدوات إجرائية، ويتعلق الأمر بالقاعدة والسنن والسياق، حيث وظفها في تحليل الأنظمة التحتية للتواصل، ومن هذا المنطلق فإن " إنتاج وفهم الدلالة الاجتماعية لحركة جسدية ما يعتمد على فهم السنن بنفس الدرجة التي يعتمد بها فهم السياق المحدد لإمكانيات فهم هذا السنن")[xviii](. ومن زاوية أخرى استلهم "إدوارد هال" مبادئ اللسانيات والتحليل النفسي، في إنتاج دراسات تتعلق ببعد آخر من أبعاد التواصل غير اللفظي، أطلق عليه "مصطلح" الثقافة التحتية "للإشارة للسلوك المتميز لمستويات التنظيم الكامنة تحت سطح الثقافة")[xix]( التي يندرج ضمنها مبحث "الإبلاغ الحيزي" la proxémique الذي يعنى بدراسة إدراك الإنسان للفضاء ليس كبعد فزيقي أو مقياس هندسي، بل "تمكن هذه الفضاءات التي يشكلها الإنسان من معرفة الكيفية التي توظف بها مختلف الشعوب حواسها")[xx]( الخمس )البصرية، اللمسية، الشمية، السمعية، والذوقية(، حيث يرى "هال" أن جهاز الاستقبال عند الإنسان يتشكل من قسمين يمكن تصنيفهما في ما يلي: )[xxi]( حواس "الاستقبال عن بعد"، التي ترتبط باكتشاف الأشياء البعيدة وهي العين و الأذن والأنف . حواس "الاستقبال المباشر"، وتوظف في اكتشاف العالم القريب عبر اللمس. وعلى هذا الأساس يضطلع كل فضاء حسي، بوظائف وأدوار خاصة في أنطروبولوجية "هال"، وسأقف عند تلك التي تتميز بحضور صامت، أي تلك التي يتكلمها الإنسان، خلال ممارسة شعائره، و طقوس احتفالاته، حيث تهيمن لغة الرائحة، وتتداخل مع لغة اللون، التي تخاطب العين بسحر الأسطورة والرمز، هذا فضلا عن لغة اللمس، الموغلة في عمق ممارسات الكائن الأسطورية. ·- الفضاء الشمي تثير الروائح بعمق الذكريات، أكثر مما تثيرها الصورة والصوت، وتلعب أدوارا ووظائف متعددة نجد من بينها : )[xxii]( × التمييز بين الأفراد والتعرف على حالاتهم العاطفية × تساعد الحيوان على تحديد أماكن القوت وعلى اكتشاف القطيع في حالة الضلال × تمكن من تحديد مؤسسة المنطقة × تمكن من خداع حضور العدو × توظف كوسيلة للدفاع × توظف في إثارة الغريزة الجنسية و يوظف الإنسان حاسة الشم في أداء عدة أدوار، وثيقة الصلة بالأسطوري السحري والطقوسي الديني كما هو الشأن في طقوس جماعة "كناوة" بالمغرب وجماعة "الستانبلي" بتونس وجماعة "ديوان سيدي بلال" بالجزائر وجماعة "الزار" بمصر حيث تعتمد هذه الجماعات الطقوسية على روائح البخور في بث رسائل متعددة إلى كل مريديها، هذا فضلا عن استخدام واستثمار قوة الرائحة في وظائف أخرى، في حضارة الشرق وحوض البحر الأبيض المتوسط، حيث نجد الشم يزيح النظر ويتفوق عليه عند العرب الذين " يدركون بالفعل تعالقا ما بين طبع ومزاج شخص ما ورائحته، إذ نجد خطابات الزواج عند العرب يبدين احتياطات كبيرة لضمان زواج متكافئ، ويمكن بالمناسبة أن يلجأن إلى طلب شم الفتاة، وإذا " لم تكن رائحتها طيبة " يرفضنها ليس على أساس معايير جمالية، وإنما نتيجة شمهن لرائحة الغضب أو عدم الرضا " )[xxiii]( . و إضافة إلى ما سبق فإن لحاسة الشم، عند الإنسان ذاكرة نشيطة وقوية، تختزن من الروائح ما يجعلها الأكثر إثارة لترسبات تقطن في أعماق الكائن، ذات صلة بالمتخيل والواقع، فالرائحة مدونة كيميائية علائقية، ترتبط الذات عبرها بأحوال ومشاعر وأهواء، قد توحي بالفرح كما بالحزن وبالألم كما بالحنين...، وتحل الذات عبر هذا السجيل الكيميائي، في فضاءات غير آبهة ببعد المسافة ولا بالزمان الغائر في الماضي، مشيدة جسر عبور نحو عوالم وأمكنة، قد تكون على صلة بأصول وجذور مفقودة لكائن ما ، أو حالة اغتراب ومنفى، وأشياء أخرى لا تهمل الرائحة مخاطبيها في بث رسائلها صوب ذاكراتهم . والروائح هي كذلك في مدننا العتيقة، بمثابة علامات مفردة تقود إلى مصادر انبعاثها، مثل علامات الطريق، إذ تتميز أغلب فضاءات دروبها الضيقة برائحة معينة، فيكفي أن نسير على هدي رائحة العطور بمدينة فاس المغربية، حتى يجد المرء نفسه في حي العطارين حيث تتم صناعة وبيع مختلف العطور وكذا النبتات العطرية، ويكفي المتجول ليلا في دروب المدن المغربية العتيقة، كسلا أو مكناس أو الصويرة أو مراكش، أن يستنشق إحدى روائح البخور الموظفة في طقوس جماعة كناوة، ويتجه صوب فضاءات انبعاثها، ليجد نفسه في حضرة طقوس" ليلة كناوية "، ويطال حضور هذه العلامات الشمية أيضا المدن الحديثة إذ "في مدينة فرنسية يستطيع المرء استنشاق رائحة القهوة والتوابل والخضر والطيور المريشة والغسيل فضلا عن الرائحة المتميزة لأرصفة المقهى، إن الاحساسات الشمية من هذا النوع تساهم في خلق شعور بالحياة، فالمرور من رائحة لأخرى لا يساعد على تحديد مصادرها بالنسبة للسكان فقط بل يزيد كذلك في إثارة الحياة اليومية ")[xxiv]) . · - الفضاء البصري تشكل حاسة البصر دعامة أساسية في تواصل الإنسان مع محيطه حيث " يعد البصر داخل نظام الحواس أكثر مادية من السمع، وهو، كذلك، أكثر قيمة على مستوى العقل")[xxv](، وتعد العين الكيان البيولوجي الذي تتدفق من تشكلا ته، وأنماط تمظهرات إشاراته الثقافية، رسائل طافحة بتعبيرات وأهواء لا ينضب معينها الدلالي، إذ " يمكن كذلك، لنظرة ما أن توبخ، أو تشجع، أو تسيطر، كما أن حجم المقلتين يمكن أن يدل على الاهتمام أو على النفور " )[xxvi]( . ومن هنا يشيد سنن النظر نمط تواصل، تتمفصل وظيفة لغته الصامتة، بين أدوار انتباهية وإدراكية عملية، وأخرى أهوائية أسطورية، سأكتفي بالإشارة لبعضها . § - وظيفة النظر الانتباهية العملية : يؤدي النظر وظيفة أساسية في عملية إدراك العالم، لدى الإنسان ، وفهم طبيعة أشيائه و أشكاله و ألوانه، ومن هنا تكون عملية " فتح العينين هي طقس انفتاح على المعرفة، وطقس تعليمي " )[xxvii](، عبره تتجلى مختلف مظاهر السيطرة و الاستئساد، والظهور بمظهر القوة والغلبة، وكل هذا يمر بطريقة عمودية من السماء إلى الأرض، في حالة اتجاه النظر صوب مظاهر الطبيعة الظاهرة والخفية، ومن أعلى السلم التراتبي الاجتماعي إلى أسفله، كما هو حال نظرات الأب مع ابنه ، والمعلم مع متعلميه والرجل مع المرأة والجلاد مع السجين، و السيد مع عبيده والراعي مع راعيته الخ . غير أن العين لا تقف عند حدود التلقي الساذج، للأشياء والمواضيع التي تخرق متواصل نظراتها، بل تؤلف علاقات وتنسج روابط ما تفتأ تتطور وتمتد نحو آفاق مشرعة على كل احتمالات مشاعر الذات السرية، فنظرة هادئة وحالمة قد تكون مبعث جذب و إثارة، ونسيج تقارب قيد التشكل بين مرسلها ومتلقيها، وعين دامعة قد تكون رسالة ألم افتقاد حبيب أو قريب، كما قد تعبر عن الفرح والحنين، وعين متسعة حدقتها تشي بتملك الخوف لكائن بشري ما وتلك لغة الأهواء والرغائب . §- وظيفة النظر الأهوائية والإيروتيكية : تعبر نظرات الحب أو الإعجاب، عن إثارة الانجذاب والميل الإيروسي حيث أن " سلطة الجذب الخاصة بالنظر تمارس في عدة مجالات وخصوصا ضمن الإطار العام للجذب العاطفي، وعلى الأخص ما يتعلق بالجنسية sexualité " )[xxviii] (، وهكذا توحدت لغة النظرة مع لغة الرغبة و الاشتهاء في ثقافة شعوب متعددة، وأمس الحديث عن توحد المرأة مع زوجها عبر العينين مثلما يتم بواسطة الجنس، لغة شائعة عند قبائل "البامبارا " بمالي فالنظرة عندها " هي الرغبة، والعين هي الاشتهاء، وفي الأخير عالم الإنسان هو عينه " )[xxix]( التي عبر قناتها عبر الإنسان نحو عوالم وتمثلات مليئة بالأسطورة والسحر، تخالف رؤى اليومي العادية والمطمئنة لنظراتها . §- وظيفة النظر الأسطورية والسحرية : لقد أسندت معظم الثقافات الإنسانية للعين، وظائف سحرية وأسطورية متعددة، لم تعد معها حاسة البصر قناة استقبال سلبي للأشياء، بقدر ما أصبحت أداة فاعلة ومنتجة لرسائل، تحوم حول مضامينها الاتهامات، إذ ظل الاعتقاد بخطورتها وشرها راسخا، في تمثلات شعوب كثيرة، الشيء الذي جعلهم ينعتون العين بسلسلة من الصفات السلبية، فهناك العين الساحرة، والقاتلة، والحاسدة، والقبيحة، والشريرة الخ، إنها تترصد الأطفال والعرسان الجدد، وقد يصل صدى شرها إلى المحاصيل الزراعية . وأمام هذه المخاطر السالفة وغيرها، تولدت الحاجة عند الإنسان لاتقاء شرها، بابتكاره لعدة أشكال ورموز وممارسته لعدة طقوس، تعمل كميكانيزمات دفاع تجاه ما يصدر عن العين الشريرة، إذ تلجأ الأمهات إلى وضع التمائم في أعناق أطفالهن، كما يلجأ الفلاحون لتعليق نفس التمائم على جباه حيواناتهم، كما نجد ظاهرة وضع رمز الكف على الأبواب الخارجية، ظاهرة شبه كونية حيث هذا الرمز " عرف تحت أسماء متعددة : " يد الرب " و " يد الإله بعل " في المسلات الفينيقية والقرطاجية و " يد مريم " عند الأوروبيين " كف فاطمة " في الشمال الإفريقي وبلاد المغرب، وعرف بكف عائشة أيضا . و " كف مفتوحة " و "كف العباس " و " خمسة وخميسة " عند الشرقيين العرب وبعض المغاربة، و " المربعة " في تونس " )[xxx](، كما تحفل الرسوم الشعبية بصورة الكف والعين المخترقة بالسهم للحد من نظرتها الحاسدة، و " صاحب هذه النظرة الشريرة يلقب ب " معيان أو عائن " )[xxxi]( في الثقافة العربية الشعبية . ولعل هذا الاعتقاد الدفاعي تجاه مخاطر العين الشريرة، قد انعكس على تشكيل فضاء معمار الإنسان العربي، كما يلاحظ ذلك في أغلب الدور العتيقة لمدننا العربية القديمة من المحيط إلى الخليج ، حيث النوافذ التي تنفذ عبرها النظرة من وإلى العالم الخارجي شبه منعدمة، تغدو معها أسوار هذه المدن والدور بداخلها، عمياء لا تحيل إلا على داخل محيط أسوارها كمصدر للحماية والطمأنينة، فقط وحدها نوافذ وسط أسطح المنازل هي التي تمكن من تسرب الضوء إلى داخل المنزل، وبالتالي تمكن النظرة من النفاذ إلى السماء مصدر الخير والنور والسمو الخ . كل هذه التمثلات والاعتقادات، الأسطورية والسحرية التي أنيطت بالعين في مختلف الثقافات الإنسانية، تنم عن كون العين هي أم الحواس التي تتطلب دراسة انطربولوجية مستفيضة، لا يتسع مجال هذه المقالة للخوض في تفاصيلها . - وظيفة الحاسة اللمسية : تعتبر حاسة اللمس أول وسيط تواصلي، اعتمده الإنسان في عملية التمييز بين مختلف المثيرات الحسية، إذ عبر الملامسة يتم إدراك العالم الخارجي بشكل مباشر، غير أن حضور هذه القناة اللمسية " التي تستعمل كثيرا في بداية الحياة، لم تعد تتواجد فيما بعد، وخاصة في ثقافتنا ، إلا من أجل الاتصالات العاطفية أو الجنسية " )[xxxii] (، إن هذا التراجع الملموس لأدوار اللمس، لا يعني فتور وفقدان نشاط هذه الحاسة، في سياقات ثقافية أخرى، حيث نجدها في ثقافة آسيا وإفريقيا، حاضرة في مختلف الممارسات اليومية البسيطة، فاللمس والمصافحة والعناق والقبلات من آداب طقوس التحية فيما بين الأفراد، كما يتم توظيف اللمس في الطلب والتوسل والتبرك بالأولياء، هذا فضلا عن سنه كشعيرة في رقصات بعض الطوائف الطقوسية المغربية، كما هو الشأن عند " عيساوة " " حمادشة " كناوة"، حيث يؤدي الراقص رقصاته حافي القادمين إذ " على المستوى الفيسيولوجي، يضاعف توظيف الرجل حافية الحساسية اللمسية، والمحلية، والمعممة " )[xxxiii]( . ويوظف هذا الوسيط التواصلي، في شراء وانتقاء الأشياء، فظاهرة لمس الخضر قبل شرائها، عادة شائعة في أسواقنا العربية المحلية الشعبية، كما تؤدي هذه الحاسة وظائف أسطورية سحرية وعلاجية، و تجدر الإشارة إلى أن ثقافتنا تمدد حاسة اللمس، لتطال تحرك الناس في مختلف الفضاءات المكتظة، حيث يسود الاحتكاك، في الأسواق والمواسم والاحتفالات والأعياد، وهذا يغيب في الثقافة الغربية - أي ثقافة الإحتكاك – التي يوجه لها الأميركيون صك اتهام فحواه " إثارة مشاعر جنسية أو عدوانية " تهدد حدود الكائن النفسية والمادية، وهذا يعاقب عليه قانون هذا البلد. وهكذا نجد " اللمس من بين كل حواسنا، هو الأكثر تجربة شخصية، إذ تعد بالنسبة للكثير من الناس أهم اللحظات الحميمية في الحياة هي تلك التي على صلة بتغيرات نسيج البشرة، إن المقاومة ضد اللمس المزعج الذي يشد الجلد مثل سلاح، والأنسجة المثيرة والدائمة التغير للبشرة خلال الممارسة الجنسية ونعومة ملمس الإشباع الذي يتبعها: كلها رسائل من جسد لآخر والتي تتضمن معنى كونيا " )[xxxiv] (، يضفي على هذه الحاسة صفة الملازم الحسي الأصيل الذي يولد ويتطور مع الإنسان، ويرافقه في رحلة اكتشاف ذاته والآخر، إنه الوسيط الذي حول الإنسان من كائن بيولوجي إلى كائن سيميولوجي، يميز بين اللمسة الباردة والحارقة، الناعمة والخشنة، الحميمة و الأسطورية الخ . خلاصة لقد شكل التواصل غير اللفظي جوهر الأبحاث الأكاديمية والعلمية، منذ فجر الخمسينات، أي ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى يومنا هذا حيث ينم هذا الاهتمام عن مدى تعقد، هذه الصيغة التواصلية الإنسانية، المتوسلة بسنن خفي وصامت تسنده الثقافة، في تحريك بنياتها وبث رسائلها التي تتطلب مجهودا، في عملية تفكيك هذا السنن وإدراك وظائفه التواصلية، وأبعاده الخفية وإيحاءات معانيه المتعددة التي تستوطن إخراج المشهد الثقافي اليومي العملية والأسطورية. الهوامش:
[i] -Pinok et Mato, expression corporelle mouvement et pensée 5° édition Paris librairie philosophique 1979 P22. [ii]- Perce C. S Ecrits sur Le signe traduit par G. Delledale, seuil, Paris ,1978. P51 [iii] - Edward. T. Hall, Au-delà de la culture, éd du seuil,1979, P 48 [iv] - Pierre Vayer, Charles Roncin, le corps et les communications humaines , éd Vigot , 1986, p, 105 [v] - Jacques Corraze, Les communication non verbales, PUF, Paris, 1980, P, 15 [vi] - نفسه، ص، 15/16 [vii] - Le corps et les communication humaines, op cit, P, 15 [viii] - إدوارد هول، رقصة الحياة، ترجمة نظمي لوقا، دار الكتاب ، القاهرة، 1987 ص، 8 [ix] - سعيد بنكراد ، استراتيجيات التواصل من اللفظ إلى الإيماءة، مجلة علامات ع 21 – 2004، ص14 [x] - اعتمدت نفس الترجمة التي تبنتها مجلة علامات المغربية لمصطلح (proxémique) أي الإبلاغ الحيزي، وتجدر الإشارة إلى أن هناك من يترجم هذا المصطلح ب" الإقترابية " وكذلك ب " البونية " [xi] - Paul Zumthor, Introduction à la poésie orale, éd, Seuil,1983, P, 13 [xii] - Edward. T. Hall, Au-delà de la culture, op CIT, P, 74 [xiii] - Jacques Corraze ( 1980) op cit , P, 97 [xiv]- نفسه، ص، 83 [xv] -- Yves Winkin, Anthropologie de la communication, de la théorie au terrain, De Boeck université, 1996.P 66. [xvi] - Pinok et Matho, Expression corporelle mouvement et pensée 5° édition Paris, 1979, P10 [xvii] - Eves Winkin,(1996), P67 [xviii] - Birdwhistell (1974, 219) in Eves Winkin ( 1996) op, cit, P 70 [xix] - Edward. T. Hall, La dimension cachée, éd, Seuil, 1971, P, 129 [xx]- نفسه، ص، 15 [xxi] - نفسه، ص، 62 [xxii] - انظر، ص، 67 من المرجع السابق [xxiii] - نفسه، ص، 70 [xxiv] - نفسه، ص، 71 [xxv] - Florisonne .M, Esthétique et mystique, éd, Sueil, 1956, P139 [xxvi] - Edward. T. Hall, La dimension cachée, opcit , P, 88 [xxvii] -Dictionnaire des symbole , éd, revue et augmentée, 2000, Paris P, 687 [xxviii] - Jacques Corraze, Les communications, non- verbales, op.cit., P, 108 [xxix] - Dictionnaire des symboles, op.cit., P, 689 [xxx] - أكرم قانصو، التصوير الشعبي العربي، عالم المعرفة، عدد 203 نوا نبر 1995 الكويت ص 104 [xxxi] - نفسه ص 105، ولملاحظة رسم الكف والعين عند الرسام العربي الشعبي، انظر اللوحة 43 من ملحق الصور واللوحات بنفس المرجع ص 240 [xxxii] - Jacques Corraze, Les communications, non- verbales, op.cit., P, 63 [xxxiii] - Jacqueline Robinson, Eléments du langage chorégraphique, éd, vigot Paris 1981, P 210 [xxxiv] - Edward. T. Hall, La dimension cachée op.cit., P, 85