بائعون بلا استقرار، و آخــر يـعاني مرارة
المرض و مرارة المـمـاطلة
باعة متجولون يعيشون بين الفرار والبحث عن
لقمة العيش
في لحظة مفاجئة، تكسر الصمت و لم يعد
يسمع إلا " هرب ، هرب " إنذار حرك فزع أناس لم يفهموا كنه هذه الرسالة،
في حين حرك الباعة المتجولين نحو التخفي و الهروب عن عيون سلطات تتربص بهم، كان
أحد الأصوات التي أثارت انتباه المارين بشارع قرب ساحة المسيرة، ساحة مكتظة بجميع
الأشكال، أطفال صغار أتوا برفقة أبائهم ليعانقوا هواء المدينة "القصبة "
المختلط ببخار " الشوايات " – أحيانا - أملا في تغيير الجو، رغم أن صخب
الموسيقى يكاد يخترق نسيج أذانهم... إلا أنهم يتجاوزون ذلك ليتمتعوا بمشهد الأقواس
و فضاء الساحة القاحلة أرضها، جالسين على أرض إسمنتية و بقرب أشجار ذبلت أغصانها و
ارتخت أوراقها لكنها لازالت تحكي تاريخ بني ملال في فترات الاستعمار.
ليس ببعيد عن هذا المشهد، انطلق صدى الصوت
الصاخب، ذاك الصوت الذي تكرر مرات عديدة حتى ترسخ في الأذهان و أصبح كابوسا يطارد
هؤلاء الباعة المتجولون، يحملون سلعهم على ظهورهم و البعض الآخر يجرها بعد أن عجز
عن تحمل ثقلها. شبان عيونهم متيقظة تبحث في كل مكان، في حين أن لسانهم لا يكف عن
الصراخ بأثمنة سلعهم " التبراح " يرتدون أحذية " سبور "
مستعدين للهرب في أية لحظة قد يتهددهم فيها تدخل السلطات، لتتسارع خطواتهم فتصبح
ركضا نحو الزقاق الضيقة القريبة من الشارع... لكنهم لا يسأمون و لا يستسلمون بل
يعودون حين تسنح لهم فرصة البيع ثم يهربون مرة أخرى و هكذا و دواليك إلى أن يخطف
الليل ضوء شمس تحترق في سبيل نشر ضيائها... و يسدل الستار.
لا اســتـــســـلام
" أنا هنا من 15 عاما في هذا الشارع
تنبيع و نشري، أمعنديش مندير من غير هذشي " هكذا قال عبد الرحيم بصوته
المبحوح بسبب كثرة صراخه " تبريحه "، بائع متجول من أبناء مدينة بني
ملال يبيع ثيابا نسائية وضعها فوق فراش بلاستيكي جوانبه معقودة بما يسهل عليه جمع
سلعته بكل بساطة بقرب مدخل أحد الأقواس الشاحبة ألوانها، شاب شهد ذل الحياة و ذاق
مر بأسها حتى باتت ملامحه أفصح تعبير يشهد عن سيرته في الحياة. فقد اختار التجارة
في هذا الشارع رغم الصراع الدائم بينه و بين الشرطة و الأعوان، محاولا كسب لقمة
عيش رغم صعوبتها، يقول – و عيناه لا تكفان عن المراقبة و الانتباه – إنه لا يجد
بديلا عن عمله هذا، فرغم المعاناة و الأضرار التي قد تلحق به، كمصادرة سلعه ، فهو
لا ينوي أبدا الاستسلام و لن يستسلم ما دام الحال هو الحال.
استطرد عبد الرحيم حديثه قائلا، " كان هناك مشروع متاجر أنجزته "
السلطات " لكن لم يستفد منه من يستحق بل فقط معارف هذا و معارف ذاك، أحيانا
بإعطاء الرشوة و أحيانا لمن خافوا سخطه " فقد قال كلماته الأخيرة بحزن و أسى
قبل أن يتدخل أحد زملائه المسمى عادل مقاطعا " أنا جيت غير من بعد منوا و
اشديت البلاصة ديالي في السوق " مفاخرا بتمكنه و في الآن نفسه متأسفا على حال
زميله، فاستطرد كلامه قائلا " اسأل أي شخص هنا و سيقول لك من هو عبد الرحيم
" مشيرا بأصبع يده اليمنى نحو كل التجار و بصوت غاضب تصاعدت منه الصرخات.
في الاشتباك وسط الميدان
في وسط الميدان، بساحة محاطة بمنازل قديمة
كالحة ( حزينة ) تتذكر فصول السنين و
متاجر و سيارات متوقفة بجانبها الأيسر، انتشر كل البائعين وسط الزحام في
اتجاهات مختلفة لكن كان مقصدهم واحدا، و هي الأزقة الذابلة جدرانها التي ستتستر
عليهم و لو لمدة وجيزة حتى يغادر القائد و مساعديه...
اندهش بعض المارين الذين لم يستوعبوا ماهية
هذا الفرار و خاف البعض الآخر، فانصدموا واقفين جامدين من أثر الدهشة البليغة لكن
الغريب أن البعض الآخر سعى وراء هؤلاء التجار غير آبه للعواقب من أجل شراء ما
جاؤوا من أجله أو ما تفاوضوا على ثمنه مع البائع...
تتبعت خطى أحد التجار، و الذي لم يتوقف و لم
يهنأ له بال إلى أن انفرد بسلعته في ركن داخل أحد الأقواس بزقاق فاض عن آخره حتى
ضاق بأصحابه، متاجر ندبت حظها في زحمة قطعت عنها الهواء... فهو ليس الوحيد، بل
تواجد بنفس المكان الكثير من زملاؤه في المهنة، تشاركوا سعة الخاطر و إيقاع "
أهازيجهم " ( الضوضاء ) التي تسعى للظفر بحصة الأسد من الزبائن.
ووسط جلبة من الأصوات توجهت إليه بالسؤال –
بعد أن فكرت ألف مرة في ردة فعله – عن رأيه، فأجابني " عبد الهادي "
قائلا أنه لا يلوم هؤلاء الشرطيين و المساعدين لأنهم لا يقومون إلا بعملهم، فهم
ينفذون القانون و يخلون الشارع من الاكتظاظ لكن في هذه المهنة صعب أن تعرف من
المظلوم و من الظالم... خلاصة أنهى بها الكلام و اتجه باحثا عن رزقه كباقي زملائه.
وجـــع الـخـسـارة
صاح أحد الذين سبق و تحدث معهم و هو يشير إلى
أحد أعوان السلطات الذي يحمل في يديه كيسا رمادي اللون يبدوا من حجمه مليئا بثياب
كثيرة حتى أن بعضها تساقط على الأرض كأنها تحتج على حملها غصبا " شوف ها هو
أدى ليه السلعة ديالوا " قال قولته و اختفى عن الأنظار بعد أن أمعن النظر في
سيارة القائد و هي تغادر كأنه يستعطفه و يقول له انظر لحالي و لحال هؤلاء فهل لنا
من بديل !.
و في
لحظة تفكير و أنا أصور هذا المشهد الذي اقشعر له البدن، قاطع تفكيري عبد الرحيم (2) الذي كنت أحاوره آنذاك – تاجر بلغ من العمر
30 سنة،أمضى منها 7 سنوات كبائع متجول بمدينة بني ملا بعد أن غادر قرية " آيت
عتاب " بحثا عن لقمة العيش – مؤكدا بأن حالهم هذا يتكرر يوميا، لكن اليوم –
يوم الأحد و الذي يتزامن مع السوق الأسبوعي – هين مقارنة مع باقي أيام الأسبوع...
فقد كان يلفظ كلماته ببحَّة و عياء، فقد تجرع خيبة الأمل و الحظ العسير الذي لم
يوليه أي تقدير حتى نال من المرض ما أعجزه عن خوض غمار لعبة التجارة في هذه
الساحة، عيونه قحلت من كثرة النظر إلى مآسي أحواله أو من كثرة البكاء على حظ
حياته، لكن لازال يشع منه بريق التفاؤل و الأمل.
" أنا مريض بمرض السكري و مجبر بأخذ
الأدوية المنتظمة للكلوي، لهذا لم أعد أستطيع العمل بهذا الشارع لأنني لا أستطيع
الركض و لا الفرار الدائم عن السلطات و حملاتها ضد الباعة المتجولين... فقد حاولت
الاستفادة من مشروع المتاجر لكن دائما تنتهي محاولاتي بالفشل، فهم لا يجيبون لا
بالرفض و لا الترحيب، بل يتركونك حائر البال بلا مجيب " يقول محدثنا.
يضيف صاحبنا، أن جمعية الباعة المتجولين أيضا
لم تبالي بطلباته، بل تمادى بها الأمر بأن وقف أحد أعضاءها ضد تسجيله في لوائح
المستفيدين، رغم أن شرط التسجيل في اللائحة هو أن يكون بائعا متجولا معروفا في هذا
الفضاء، لا يعرف السبب لكن يؤكد استفادة أشخاص حديثي التجارة بل بعضهم لا يمت لها
بأي قرابة.
مــحــاولات فــاشـلـة
الشرطي، فجأة و دون أي تفكير
وجدتني قرب أحد الشرطيين الذي كان يتعامل بنوع من المرونة مع البائعين و يطلب منهم
الانسحاب من الشارع بدل الوقوع في متاعب مع القائد، محاولا انجاز عمله دون أي
أضرار قد تلحق بهذا البائع أو ذاك، و الذي رفض محادثتي بعلة أنه لا يملك أي إجابات
و أنه يطبق الأوامر فقط مقترحا علي محادثة القائد...
القائد، يرتدي ملابس ميدانية و حذاءا رياضيا لا يميزه عن غيره من المارين،
لكن صدى أوامره كانت تسمع في كل أرجاء المكان، يصرخ في وجه من عصى أمره و لم
يستوعب حديثه، و يتوعد بعضهم بمصادرة سلعهم... فتوجهت إليه باستفسار عسى أن ألقى
جوابا لكن دون جدوى...
المخزني، في لحظة حديث مع القائد، اجتذب أحد المخزنين ذراعي بلطف نحو
الابتعاد عن القائد، قائلا " أشبغيتي القايد ايقول ليك، راه تيدير غير خدمتوا
و معندوا باش ينفعك إلى بغيتي معمن تهدر خاصك تطلع الفوق " فتركني في حيرة
التفكير في معنى " خاصك تطلع الفوق " و أي جهة قصدها ؟
أحـلام بـسـيـطـة... لا تـطـأ بـسـاط الأرض
عبد الرحيم (2)، ظروف أيقظت آسَـفَ الزمن على حظه و هو في
عقده الثالث لم يتزوج و لم يبني بيتا يأويه، فقد ورث العياء و المرض، ورث سخط
الدنيا في زمن المصالح حتى ما أصبح يحس باللذة و الحلاوة بل ذاق المرارة في حلم لم
يتحقق، حلم بسيط في ثياب ذابلة، فقد حلم بأن يكون له محل كباقي زملائه التجار
الذين استفادوا من مشروع المحلات رغم مجهوداته المبذولة و ذلك أملا في الراحة من
تعب "سير حتى تجي "...
في ثياب أنيقة و جميلة تخفي مرارة الحاجة و
الفقر، و أحيانا بسمة تخفي حزنا دفين عالم القلوب، و عيون متعبة من كثرة السهر
ألفت جو البحث و الحذر، أقدام لأمر الركض و الفرار تنظر مستعدة لا تغفل... هذه
صفات باعة متجولين أكـْرهُـوا على ما يفعلون، أكرهتهم لقمة العيش و مرارة الاحتياج
فأصبحوا يحاربون و لو بالخسارة لا يستسلمون.
